لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه - يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره - أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه.
يقول قائل : ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق والمؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة ؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم ؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإِنسَاْني، ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعداً لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو أُلْهِمَ حاجاته كما تلهم الحيوانات، لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيواناً آخر، كالنحل والنمل، أو مَلَكاً من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض.
ثم قال : إن كان الإِنسَاْن قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً ؛ من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه، مع ذلك الشعور، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده، أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود ؟ أنعم، هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه.


الصفحة التالية
Icon