فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله ؛ فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقاً، فلا بُدَّ من أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين. وأيضاً إن خلق الخلق - كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان - يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه، فيخلقون الكوب ليظل كوباً في حجمه وشكله ولونه، ولكنهم لم يخلقوا كوباً ذكراً وكوباً أنثى ليجتمعا معاً وينشئا أكواباً صغيرة تنمو وتكبر، ولكن الله ينفخ بسرّ الحياة في كل شيء فيوجده، لذلك هو أحسن الخالقين.
ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة، فلو نظرت إلى ذات نفسك، لوجدت لك وسائل إدراك، لوجدت لك سمعاً، ولوجدت لك عيناً، ولوجدت لك أنفاً ولمساً وذوقاً ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض عينيك. ولكن إذا أردت الا تسمع، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول " لا أسمع "؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم. أنت تمد يدك لتلمس. وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت لا تعرف شيئاً إلا سبباً مثيراً يضحك، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك. وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكياً؟ أنت لا تعرف. ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة، والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى. ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [ النجم : ٤٣-٤٤ ]
جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل. والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع ؛ لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء، ولكن الأثر الصالح يأمر :( لا تتسمّع إلى القيلة ).


الصفحة التالية
Icon