﴿ قَدْ جَاءكُمُ ﴾ أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى الإنكار ﴿ بُرْهَانَ ﴾ البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب، والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوةِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام المُثبِتُ لما فيه من الأحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه، وقيل : هو المعجزاتُ التي أظهرها، وقيل : هو دينُ الحقِّ الذي أتى به، وقوله تعالى :﴿ مّن رَّبّكُمْ ﴾ إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى، على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً، وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم. والتعرضُ لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربيتهم وتكميلِهم ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ أريد به أيضاً القرآنُ الكريمُ، عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفاً وأخرى بالنور النيِّرِ بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه مستغنٍ في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عند الله تعالى بإعجازه، غيرُ محتاجٍ إلى غيره مبينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعاراً بهدايته للخلق وإخراجِهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ، وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين تنزيلاً للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية، وعبِّر عن لابسته للمخاطَبين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه المنبىءِ عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ، ويجيءُ على شُبَه الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال