وكان المهلك من المعاصي بعد الإرسال ما اتصل بالموت فأحبط ما قبله، نزع الجار فقال :﴿بعد ذلك﴾ أي الشرط المؤكد بالأمر العظيم الشأن ﴿منكم﴾ أي بعد ما رأى من الآيات واقرّ به من المواثيق ﴿فقد ضل﴾ أي ترك وضيّع، يُستعمل قاصراً بمعنى : حار، ومتعدياً كما هنا ﴿سواء﴾ أي وسط وعدل ﴿السبيل﴾ أي لأن ذلك كفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره، وفي هذا تحذير شديد لهذه الأمة، لأن المعنى : فإن نقضتم الميثاق - كما نقضوا - بمثل استدراج شاس بن قيس وغيره، صنعنا بكم ما صنعنا بهم حين نقضوا، من إلزامهم الذلة والمسكنة وغير ذلك من آثار الغضب، وإن وفيتم بالعقود آتيناكم أعظم مما آتيناهم من فتح البلاد والظهور على سائر العباد ؛ قال ابن الزبير : ولهذا الغرض والله أعلم - أي غرض التحذير من نقض العهد - ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى ﴿أوفوا بعهدي﴾ [ البقرة : ٤٠ ] فقال تعالى :﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ إلى قوله ﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ [ المائدة : ١٢ ] ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ [ النساء : ٥٥ والمائدة : ١٣ ] وذكر تعالى عهد الآخرين فقال ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ [ المائدة : ١٤ ] ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم ما نقضوا فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة - إلى غير ذلك مما ذكره في هذه السورة، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى :﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا﴾ [ المائدة : ٨٢ ] انتهى.