وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي، ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي ﷺ، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، و﴿ مِنْ ﴾ لابتداء الغاية مجازاً، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجىء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافياً عليهم. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٦ صـ ﴾
وقال ابن عاشور :
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبَائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة ؛ إذ قد تهيَّأ من ظهور صدق الرسول ﷺ ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم، ولذلك ابتدىء وصفُ الرسول بأنّه يبيَّن لهم كثيراً ممّا كانوا يخفون من الكتاب، ثم أعقبه بأنَّه يعفو عن كثير.
ومعنى ﴿ يعفو ﴾ يُعرض ولا يُظهر، وهو أصل مادّة العفو.
يقال : عفا الرسم، بمعنى لم يظهر، وعفاه : أزال ظهوره.
ثم قالوا : عفا عن الذنب، بمعنى أعرض، ثم قالوا : عفا عن المذنب، بمعنى ستر عنه ذنبه، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جلهكم.