ولما كانت الأرض - مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية - دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف - لا سيما وهو في كدر - دالاً على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل، قال :﴿في الأرض﴾ أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله :﴿فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها.
كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض ﴿بل أنتم بشر ممن خلق﴾ [ المائدة : ١٨ ] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره، ومن سن سنة كان كفاعلها ﴿ومن أحياها﴾ أي بسبب من الأسباب كعفو، أو إنقاذ من هلكة كغرق، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً ﴿فكأنما أحيا﴾ أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء ﴿الناس جميعاً﴾ أي بمثل ما تقدم في القتل، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور - لا على أنه يجب عليه - رعاية المصلحة، ومما يحسن إيراده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى :
الناس من جهة التمثال أكفاء...
أبوهمُ آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة...
وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب...
يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم...
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه...


الصفحة التالية
Icon