﴿ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين ﴾..
وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ؛ في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني ؛ وحماسة للمعتدَى عليه ضد المعتدِي ؛ وإعجاباً بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ؛ وتقوى قلبه وخوفه من رب العالمين.
ولقد كان في هذا القول اللين ما يفثأ الحقد ؛ ويهدّىء الحسد، ويسكن الشر، ويمسح على الأعصاب المهتاجة ؛ ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة، وبشاشة الإيمان، وحساسية التقوى.
أجل. لقد كان في ذلك كفاية.. ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير :
﴿ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين ﴾..
إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك. فهذا الخاطر - خاطر القتل - لا يدور بنفسي أصلاً، ولا يتجه اليه فكري إطلاقاً.. خوفاً من الله رب العالمين.. لا عجزاً عن إتيانه.. وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ؛ فيكون إثمك مضاعفاً، وعذابك مضاعفاً.. ﴿ وذلك جزاء الظالمين ﴾..
وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل، ليثنيه عما تراوده به نفسه، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي.
وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين ؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان.
ولكن النموذج الشرير لا تكمل صورته، حتى نعلم كيف كانت استجابته :
﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين ﴾..
بعد هذا كله. بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير. بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة، فوقعت الجريمة. وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة، وطوعت له كل مانع.. طوعت له نفسه القتل.. وقتل من؟ قتل أخيه.. وحق عليه النذير :


الصفحة التالية
Icon