وقال القرطبى :
قوله تعالى :﴿ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ هذا تخيير من الله تعالى ؛ ذكره القشيري ؛ وتقدّم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ؛ فإن النبي ﷺ لما قدم المدينة وادع اليهود.
ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا.
فأما أهل الذّمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي ؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم.
قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي.
واختلفوا في الذميين ؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخيّر ؛ روى ذلك عن النَّخَعي والشَّعْبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روى عن مالك في ترك إقامة الحدّ على أهل الكتاب في الزنى ؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حدّ ولا حدّ عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حدّ عليهما ؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما.
وقد روى عن أبي حنيفة أيضاً أنه قال : يجلدان ولا يرجمان.
وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحدّ أن أتيا راضيين بحكمنا.
قال ابن خُوَيْزِ مَندَاد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردّهم إلى حكامهم.
فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام.
وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم ؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهاراً وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين.


الصفحة التالية
Icon