كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ ﴾ [ المنافقون : ١ ]
النسبة واحدة، لكن الله يكذب المنافقين. وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم :﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ [ المنافقون : ١ ]
أي أن الله يُكذِّب شهادتهم، لأن محمداً رسول الله بالفعل، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب.
إذن قوله الحق :﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ أي أن عملهم الاستماع للكذب، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً، وأكَّال صيغة للمبالغة ؛ وتكون إما في الحدث، وإما في تكرار أنواع الحدث. فيقال :" فلان أكال "، و" فلان أكول " وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً، والمبالغة - إذن - إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث.
﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ ومادة " سَحت " تعني " استأصل ومحا "، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه. مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب، نستطيع استئصال البقعة، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب. والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً. أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً ؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول :﴿ يَمْحَقُ الله الربا ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]
والربا في مفهومنا أنه زيادة، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة ؛ لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال. وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال.