ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن ؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم، وكأن الحق يقول لرسوله : إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك ﴿ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ﴾ وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم ؛ فأنت بالخيار ؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض. ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك.
﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية، والحكم بينهم يكون بالقسط ؛ أي بالعدل. والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله. أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر. ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن ؛ إذن ف " أقْسَط " أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون. والكون كله يسير بميزان ؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ]
فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور، اعدلوا - إذن - في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون، ولذلك نقرأ قوله تعالى :﴿ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان ﴾ [ الرحمن : ٥-٨ ]