قيل له : هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي ﷺ وقوله :" فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته ". ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ من قوله :" فمن تصدّق بدمٍ "، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي :
حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، فقال له : يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها!