ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان، قال سبحانه عاطفاً على ﴿وترى كثيراً منهم﴾ [ المائدة : ٦٢ ] مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله ﴿ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً﴾ [ المائدة : ٤١ ] بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم :﴿وليزيدن كثيراً منهم﴾ أي ممن أراد الله فتنته، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال :﴿ما أنزل إليك﴾ أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى ﴿طغياناً﴾ أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلىء منه الأكوان في كل إثم وشنأ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان، وهو - لما له من الكمال وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان، فيكون أعدى العدوان ﴿وكفراً﴾ أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور ودعت إليه كتبهم من الخير، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح، وكلما قوي الضياء زاد أذاه، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة، فإن ضعفوا فنفاقاً.
ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم، نفى ذلك بقوله ﴿وألقينا﴾ أي بما لنا من العظمة الباهرة ﴿بينهم﴾ أي اليهود ﴿العداوة﴾ ولما كانت العداوة - وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله :﴿والبغضاء﴾ أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو ﴿إلى يوم القيامة ﴾.


الصفحة التالية
Icon