وقال أبو السعود :
﴿ قُلْ يا أهل الكتاب ﴾ مخاطِباً الفريقين ﴿ لَسْتُمْ على شَىْء ﴾ أيْ دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءه ﴿ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل ﴾ أي تراعوهما وتحافظوا على مافيهما من الأمور التي من جملتها دلائلُ رسالة الرسول ﷺ وشواهدُ نبوته، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك، وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء، بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما، لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها، لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما، وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثه، وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه، فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يُفصح عنه قوله تعالى :﴿ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ ﴾ أي القرآن المجيد بالإيمان به، فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك، وتقديمُ إقامةِ الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق، وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به لا كما يزعُمون من اختصاصه بالعرب، وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشير إليه من اللطف في الدعوة، وقيل : المراد بما أُنزل إليهم كتبُ أنبياءِ بني إسرائيلَ كما مر، وقيل : الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله ﷺ : ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى؟ فقال عليه السلام :"بلى"، فقالوا : فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت، قوله تعالى :{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ