ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب، ويسعون في إيقاع أشد الكروب، وكان ذلك - وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده - لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين، وكان كأنه قيل : إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه، قال :﴿والله﴾ أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له ﴿يعصمك﴾ أي يمنعك منعاً تاماً ﴿من الناس﴾ أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان.
ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغ فهو لا يؤمن، فلا يزال يبغي الغوائل.
أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله :﴿إن الله﴾ أي الذي لا أمر لغيره ﴿لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله ﴿ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً﴾ [ المائدة : ٤١ ] ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله ﴿ويغفر لمن يشاء﴾ والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين : أحدهما خوف فوات النفس، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء، فنفي الأول بضمان العصمة، والثاني بختام الآية، أي ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يحزنك من لا يقبل، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه، والله لا يهدي مثله، وتلخيصه : بلغ، فمن أجابك ممن أشير إليه - فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم - فهو حظه في الدنيا والآخرة، ومن أبى فلا يحزنك أمره، لأن الله هو الذي أراد ضلاله.


الصفحة التالية
Icon