والثاني : أن يكون منصوباٌ على الاستثناء، فيكون " الحَقّ " مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه ؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو " دِينُكُمْ ".
وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [ الآية ١٧١ ] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ : أنَّ " تَغْلُوا " فعلٌ لازمٌ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ،
قال الراغب : الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ " غَلاَءً "، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ " غُلُوًّا "، وفي السهم " غَلْواً "، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو ؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب " غَيْرَ الحَقِّ " مفعولاً به، أي : لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ، فإنْ فسَّرنا " تَغْلُوا " بمعنى تتباعَدُوا من قولهم :" غَلاَ السَّهْمُ "، أي : تباعدَ كان قَاصِراً، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ، أخذه من هذا لا من الأوَّل.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ﴾ الآية.
الأهْوَاء : جمْعُ الهَوَى، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ.
والمراد هَاهُنَا : المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة.
قال الشَّعْبِيُّ : ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ.
قال تعالى :﴿ وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ ص : ٢٦ ]، ﴿ واتبع هَوَاهُ فتردى ﴾ [ طه : ١٦ ]، ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ﴾ [ النجم : ٣ ]، ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ [ الفرقان : ٤٣ ].
قال أبُو عُبَيْدٍ : لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ، لا يقال : فلانٌ يَهْوَى الخَيْر، إنما يقال : يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ.