وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :(ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْخَوْفَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا : الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا.