وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت ( مِن ) بيانية جارّة لاسم التمييز.
وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل : طبتَ النَّفْسَ.
و( مِنْ ) في قوله ﴿ مِمَّا عرفوا ﴾ تعليلية، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به.
ف ﴿ مِن ﴾ قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله: ﴿ تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا ﴾ [ التوبة : ٩٢ ]، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين.
و( مِن ) في قوله ﴿ من الحقّ ﴾ بيانية.
أي ممّا عرفوا، وهو الحقّ الخاصّ.
أو تبعيضية، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله.
وجملة ﴿ يقولون ﴾ حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا.
وهذا القول يجوز أن يكون علناً، ويجوز أن يكون في خويّصتهم.
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم.
وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة.
وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادىءَ الأمر.
كما قال ورقة : يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك.
أي تكذيباً منهم.
أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى.
ففي إنجيل متّى عدد٢٤ من قول عيسى "ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم".
وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد١٥ من قول عيسى "ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأببِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء".
وإنّ لِكلمة ﴿ الحقّ ﴾ وكلمة ﴿ الشاهِدين ﴾ في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٥ صـ ﴾