وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هوذا الحق يقول :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ ﴾ وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع، يجيب القرآن :﴿ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ﴾. وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله :﴿ ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق ﴾. فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم :﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾، وهذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرناً، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع.
وهنا نميز بين أمرين : الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال :" اغرورقت عين فلان " أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض.
إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن :" مِنْ " تتكرر في الأداء هنا. ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق ﴾. ف " من " تسبق من الدمع. و" من " مدغومة في " ما " فصاروا معاً " مما و" مِن " تسبق الحق.
﴿ تَفِيضُ مِنَ الدمع ﴾ ف " مِن " هنا هي :" مِن " الابتدائية. و" مما عرفوا " هنا " مِن " السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و" من الحق " للتبعيض، أي عرفوا بعضاً من الحق ؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن.


الصفحة التالية
Icon