قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾. هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرفه عندما يكون الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الأمر سبحانه وتعالى. كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريده الله من المأمور ليأمر به نفسه.
وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. ومثال ذلك - والله المثل الأعلى - يقول الأب لأحد أبنائه : إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل : انته عن اللعب ؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول : لقد انتهيت عن اللعب.
وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت حكماً من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم ؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي ﷺ وقال أهل قريش : إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله ﷺ بقوله تعالى :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾ [ الضحى : ٣ ].
ويتابع الوحي :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى ﴾ [ الضحى : ٦ ].
وعندما يستقرئ النبي ﷺ هذه المسألة يجيب : نعم يا رب أنت وجدتني يتيماً فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر. وهذه أبلغ أنواع الأمر.