والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأنّ أصل ( جعل ) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم : فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله :﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس ﴾ [ المائدة : ٩٧ ].
فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع.
فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً : ما أمرتك بهذا.
فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله :﴿ قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه.
وأدخلت ( مِن ) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة، فقد ساوى أن يقال : لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام.
والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبَحْر الشقّ.
يقال : بحرَشقّ.
وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً، أي شقّها ووسّعها.
فالبحيرة هي الناقة، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم.
وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر.
وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة.


الصفحة التالية
Icon