والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذوراً في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك ؛ فكان هذا الحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعاً للحقوق.
فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود : اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون.
ولمّا كان رسولنا ﷺ قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلاً لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم.
قال تعالى حكاية عنهم "ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين ( أي المسلمين ) سبيل" فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطاً.
وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من قال الله في شأنه ﴿ من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] ولكن الحكم للغالب.
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته : فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع ؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعاً، وهو قول الجمهور.