فَهُوَ يَخْشَى ضَرَّهَا وَيَرْجُو نَفْعَهَا، وَلَا يَمْتَدُّ نَظَرُ عَقْلِهِ وَلَا شُعُورُ قَلْبِهِ إِلَى سُلْطَةٍ فَوْقَهَا وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَكْوَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَيَوَانِ مِنْهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِفَهِمَ الشَّرَائِعِ وَحَقَائِقِ الدِّينِ، عَلَى أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاتِّخَاذِ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا; لِأَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا لِلنَّاسِ عِبَادَةَ الْمَسِيحِ وَأَمِّهِ كَانُوا مِنْ شُعُوبٍ مُرْتَقِيَةٍ حَتَّى فِي وَثَنِيَّتِهَا، وَلَهَا فَلْسَفَةٌ دَقِيقَةٌ فِيهَا، وَهُمُ الْيُونَانُ وَالرُّومَانُ، وَبَعْضُ الْيَهُودِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْفَلْسَفَةِ جِدَّ الِاطِّلَاعِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ : أَنَّ اتِّخَاذَ إِلَهٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُرَادُ بِهِ عِبَادَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ خَالِصَةً لِغَيْرِهِ أَوْ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَاسِطَةً عِنْدَهُ (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (٩٨ : ٥).
أَمَّا اتِّخَاذُهُمُ الْمَسِيحَ إِلَهًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَعِبَادَتُهَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا فِي الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ بَعْدَ قُسْطَنْطِينَ، ثُمَّ أَنْكَرَتْ عِبَادَتَهَا فِرْقَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ.
إِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الَّتِي يُوَجِّهُهَا النَّصَارَى إِلَى مَرْيَمَ وَالِدَةِ الْمَسِيحِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) مِنْهَا


الصفحة التالية
Icon