روى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ( ﷺ ) "نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج". ورسول الله يقول:" سبحان الله العظيم. سبحان الله العظيم.. "..
هذا الموكب، وهذا الارتجاج، واضح ظلهما في السورة !.. إنها هي ذاتها موكب. موكب ترتج له النفس، ويرتج له الكون !.. إنها زحمة من المواقف والمشاهد والموحيات والإيقاعات !.. وهي - كما قلنا من قبل - تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجه تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق !
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه متصل ; فلا يمكن تجزئة السورة إلى مقاطع، كل مقطع منها يعالج جانبا من الموضوع.. إنما هي موجات.. وكل موجة تتفق مع التي قبلها وتكملها.
ومن ثم فلن نحاول عرض الموضوعات التي تحتويها السورة في هذا التعريف ; وإنما سنحاول فقط عرض نماذج من هذه الموجات المتلاحقة فيها:
تبدأ السورة بمواجهة المشركين، الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم وتطالعهم في الآفاق وفي أنفسهم.. تبدأ بمواجهتهم بحقيقة الألوهية متجلية في لمسات عريضة تشمل الوجود كله ; وتشمل وجودهم كله.. تبدأ في لمسات ثلاث ترسم مجالي الوجود الكبيرة على أقصى عمق واتساع:
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون. وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون)..