فلهذا السبب قال :﴿هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ﴾ وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، وهما يتولدان من الدم، والدم إنما يتولد من الأغذية، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان، فبقي أن تكون نباتية، فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.
وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب.
إذا عرفت هذا فنقول : هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٢٦ ـ ١٢٧﴾
وقال أبو حيان :
﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ ظاهره أنا مخلوقون من طين، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها ﴿ من طين ﴾ ثم يقلبها الله نطفة.
قال ابن عطية : وهذا يترتب على قول من يقول : يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين ؛ انتهى.
وقال النحاس : يجوز أن تكون النطفة خلقها الله ﴿ من طين ﴾ على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ؛ انتهى.


الصفحة التالية
Icon