والدليل عليه أن الكناية في قوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء، فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم، وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء﴾ قولين : أحدهما : أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولاً وملبوساً عندك، وإلا فهم فارغون عن دينك، فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله، فحسابهم عليه لازم لهم، لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم، كقوله ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ].
فإن قيل : أما كفى قوله ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء﴾ حتى ضم إليه قوله ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء ﴾
قلنا : جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
القول الثاني : ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، ولا حساب رزقك عليهم، وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى، فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم.
واعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ [ الشعراء : ١١١ ] فأجابهم نوح عليه السلام و﴿قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [ الشعراء : ١١٢، ١١٣ ] وعنوا بقولهم ﴿الأرذلون﴾ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة، فكذلك ههنا.
وقوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي ومعناه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم، بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم، وقوله ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ يجوز أن يكون عطفاً على قوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ على وجه التسبب لأن كونه ظالماً معلول طردهم ومسبب له.
وأما قوله ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ ففيه قولان : الأول :﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ لنفسك بهذا الطرد، الثاني : أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلماً لهم، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٩٥ ـ ١٩٦﴾


الصفحة التالية
Icon