فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالاً من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوماً لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون، لأنه قال أولاً :﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال :﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر﴾ وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر، والبحر، والحس، والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول.
وفيه دقيقة أخرى وهي : إنه تعالى قدم ذكر البر، لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن.
وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب.
فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه.


الصفحة التالية
Icon