وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر : أنّ جبريل لمَّا استخرج العلقة قال : هذا حظّ الشيطان منك، يعني مركز تصرّفاته، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا ﷺ إلاّ بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتَّى ينسى مثل ما ورد في حديث "الموطأ" حين نام رسول الله ﷺ ووكَّل بلالاً بأن يكلأ لهم الفجر، فنام بلال حتَّى طلعت الشمس، فإنّ النبي قال :" إنّ الشيطَان أتى بلالاً فلم يزل يُهَدّئُه كما يُهَدّأ الصبيّ حتّى نام " فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالاً فكان نوماً معتاداً ليس من عمل الشيطان.
وإلى هذا الوجه أشار عياض في "الشفاء".
وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله ﷺ رأى ليلة القدر، فخرج ليُعلم الناس فتَلاحَى رجلان فرُفعت.
فإنّ التلاحي من عمل الشيطان، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أنّ الرّسول ﷺ معصوم من الوسوسة، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزْغ فلا يلزم أن يعصم منه.
وقد يفرّق بين الأمرين : أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرتَ فلا تقعد معهم، فهذا النسيان ينتقل به الرسول ﷺ من عبادة إلى عبادة، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر، فليس إنساء الشيطان إيَّاه إيقاعاً في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان، ولذلك قال :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾، أي بعد أن تتذكَّر الأمر بالإعراض.
فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان، فهي اسم مصدر، أي إذا أغفلت بَعد هذا فقعدت إليهم فإذا تذكَّرت فلا تقعد، وهو ضدّ فأعرض، وذلك أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه.
وقرأ الجمهور :﴿ يُنْسِيَنّك ﴾ بسكون النون وتخفيف السين.
وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التنسية، وهي مبالغة في أنساه.
ومن العلماء من تأوّل هذه الآية بأنَّها مما خوطب به النبي ﷺ والمراد أمَّته، كقوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطنّ عملك ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] قال أبو بكر بن العربي إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في ﴿ لئن أشركت ليحبطنّ عملك لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه.
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أنّ خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنَّه خوض إنكار للحقّ ومكابرة للمشاهدة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ ٦ صـ ﴾