ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه، وقصرها عليه ؛ قال مستثنياً من سبب النفي، وهو أنها لا تقدر على شيء :﴿إلا أن يشاء ربي﴾ المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع ﴿شيئاً﴾ أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها، لأنه قادر على ما يريد، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره.
ولما كان هذا في صورة التعليق، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد، فيكون موضع إطماع للخصم فيه، علله بما أزال هذا الخيال فقال :﴿وسع ربي كل شيء علماً﴾ أي فأحاط بكل شيء قدرة، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة، وأثبت له كل مقتض لها، وذلك ثمرة شمول العلم - كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك :﴿أفلا تتذكرون﴾ أي يقع منكم تذكر، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر، وأنها مصنوعكم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٦٦١ ـ ٦٦٢﴾