والسؤال الثالث : أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة، ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة ؟ وأيضاً لما نزلت السورة دفعة واحدة، فكيف يمكن أن يقال : هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية ؟ فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول، والأقرب عندي أن يقال : لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : ما أنزل الله عليك شيئاً ألبتة، ولست رسولاً من قبل الله ألبتة، فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية، والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئاً لأني بشر وموسى بشر أيضاً، فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئاً، فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات، وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره، بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود، وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئاً ألبتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى، فذاك محض الجهالة والتقليد، وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين.
فأما السؤال الثالث : وهو قوله : هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي.
قلنا : القائلون بهذا القول قالوا : السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية، فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه.