وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف : ١٩٥ ] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّياً للشّتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين، كما روي في "السيرة" أنّ عُروة بن مسعود الثّقفي جاء رسولاً من أهل مكّة إلى رسول الله ﷺ يومَ الحديبيّة فكان من جملة ما قاله :" وأيم الله لكأنّي بهؤلاء ( يعني المسلمين ) قد انكشفوا عنك "، وكان أبو بكر الصدّيق حاضراً، فقال له أبو بكر "امصُصْ بَظْر اللاّت" إلى آخر الخبر.
ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتَّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل، وينهض به المحقُّ ولا يستطيعه المبطل، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما.
وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ.
على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يُحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عادَ مُنافياً لمراد الله من الدّعوة، فقد قال لرسوله عليه الصّلاة والسّلام " وجادلهم بالّتي هي أحسن "، وقال لموسى وهارون عليهما السّلام "فقولا له قولاً ليّناً"، فصار السبّ عائقاً من المقصود من البعثة، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوباً بمصلحة.
وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرض.
وذلك مَجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفاً، وتحقّقاً واحتمالاً.
وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها.
وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ.


الصفحة التالية
Icon