والتّقدير : فلنفسه أبصر، ولولا قصد الإيذان بهذا التّقديم لقال : فمن أبصر أبصر لنفسه، كما قال :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾ [ الإسراء : ٧ ] والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره، لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم يغيظون النّبيء ﷺ بإعراضهم عن دعوته إيّاهم إلى الهدى، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي ﷺ وقد أومأ إلى هذا صاحب "الكشاف"، بخلاف آية ﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، فإنّها حكت كلاماً خُوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهّمون أنّ إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضرّ الله.
والكلام على قوله :﴿ ومن عمي فعليها ﴾ نظير الكلام على قوله :﴿ فمن أبصر فلنفسه ﴾.
وعُدّي فعل ﴿ عَمِيَ ﴾ بحرف ( على ) لأنّ العمى لمّا كان مجازاً كان ضُرّاً يقع على صاحبه.
وجملة :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ تكميل لما تضمّنه قوله :﴿ فمن أبصر فلنفسه ومن عمِي فعليها ﴾، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود عليّ ضرّكم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنّب ضرّكم فلا تحسبُوا أنّكم حتّى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضّلال.
والحفيظ : الحارس ومن يُجعل إليه نظر غيره وحفظُه، وهو بمنزلة الوكيل إلاّ أنّ الوكيل يكون مجعولاً له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ، والحفيظ أعمّ لأنّه يكون من جانبه ومن جانب مَواليه.
وهذا قريب من معنى قوله ﴿ وكذّب به قومك وهو الحقّ قل لستُ عليكم بوكيل ﴾ [ الأنعام : ٦٦ ].
والإتيان بالجملة الاسميّة هنا دقيق، لأنّ الحفيظ وصف لا يُفيد غيرُه مُفادَه، فلا يقوم مقامَه فعل حَفِظ، فالحفيظ صفة مشبّهة يقدّر لها فِعْل منقول إلى فَعُل بضمّ العين لم يُنطق به مثل الرّحيم.
ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميّة اختصاصاً خلافاً لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التّفتزاني مال إليه، وسكت عنه السيّد الجرجاني وهو وقوف مع الظّاهر.
وتقديم ﴿ عليكم ﴾ على ﴿ بحفيظ ﴾ للاهتمام ولرعاية الفاصلة. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٦ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon