والأظهر في نظم الآية : أنّ ﴿ جعلنا ﴾ بمعنى خلقنا وأوجدنا، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله :﴿ وجعل الظّلمات والنّور ﴾ [ الأنعام : ١ ] فمفعوله :﴿ أكابر مجرميها ﴾.
وقوله :﴿ في كل قرية ﴾ ظرف لغو متعلّق بـ ﴿ جعلنا ﴾ وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها.
وفي قوله :﴿ أكبر مجرميها ﴾ إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة، وقوله :﴿ ليمكروا ﴾ متعلّق بـ ﴿ جعلنا ﴾ أي ليحصُل المكر، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن.
ويحتمل أن يكون ﴿ جعلنا ﴾ بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما :﴿ أكبر مجرميها ﴾ على أنّ ﴿ مجرميها ﴾ المفعول الأوّل، و﴿ أكابر ﴾ مفعول ثان، أي جعلنا مجرميها أكابر، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب، إذ ليسوا بأهل للسؤدد، كما قال طفيل الغنوي:
لا يصلح النّاس فَوضى لا سَراة لهم...
ولا سَراة إذا جُهَّالهم سادوا
تُهدَى الأمورُ بأهل الرأي ما صَلُحت...
فإنْ تولَّتْ فبالأشرار تَنْقَادُ
وتقديم قوله :﴿ في كل قرية ﴾ للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل.
وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم، وتفاقم ضرّه، وإشعار بضرورة خروج رسول الله ﷺ من تلك القرية، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين مَن أسلم منهم.
ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ].