ولما كان إيحاء الشياطين إلى أوليائهم مما يوجب لزوم العمى ليس إلاّ تزييناً للقبائح، فكان حالهم مما يشتد العجب منه، كان كأنه قيل : لولا رؤيتنا لحالهم ما صدقنا أن عاقلاً يرضى ما فعلوه بأنفسهم، فهل وقع لأحد قط مثل حالهم؟ فقيل : نعم ﴿كذلك﴾ أي مثل ما زين لهم سوء أعمالهم ﴿زين للكافرين﴾ أي كلهم ﴿ما كانوا﴾ بما جبلناهم عليه ﴿يعملون﴾ فهم أبداً في الظلمات، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً كونه في الظلمات دليلاً على تقديره ثانياً، وثانياً التزيين دليلاً على تقديره أولاً. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧٠٧ ـ ٧٠٨﴾
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلاً يدل على حال المؤمن المهتدي، وعلى حال الكافر الضال، فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً، فجعل حياً بعد ذلك وأعطى نوراً يهتدى به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها، فيكون متحيراً على الدوام.
ثم قال تعالى :﴿كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر فقال أصحابنا : ذلك المزين هو الله تعالى، ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى، والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح، فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين، فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى، وقالت المعتزلة : ذلك المزين هو الشيطان، وحكوا عن الحسن أنه قال : زينه لهم والله الشيطان.
واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه : الأول : الدليل القاطع الذي ذكرناه.
والثاني : أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر، لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان.
الثالث : أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها، أما قبلها فقوله :﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [ الأنعام : ١٠٨ ] وأما بعد هذه الآية فقوله :﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٣٩ ـ ١٤٠﴾


الصفحة التالية