وَاعْلَمْ - أَيُّهَا الْقَارِئُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مُعْتَرَكَ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ - فَالْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ وَقَعَ بِتَقْدِيرٍ سَابِقٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَنِظَامٍ ثَابِتٍ بِسُنَنٍ حَكِيمَةٍ يَقُولُونَ : إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ هِدَايَةَ امْرِئٍ يَخْلُقُ فِي صَدْرِهِ انْشِرَاحًا لِلْإِسْلَامِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ لَهُ بِخَلْقِ اللهِ، وَهَذَا الْخَلْقُ يَحْصُلُ آنِفًا أَيْ جَدِيدًا غَيْرَ مُرَتَّبٍ عَلَى تَقْدِيرٍ سَابِقٍ. وَالْجَبْرِيُّ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُ : إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِسْلَامُ الْمَرْءِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَا كَسْبِهِ بَلْ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَمِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَنْ يَقُولُ : لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ فَيَخْلُقُ لَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَالْحَرَجِ مَا يَثْبُتُ بِهِ عَلَى كُفْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَأْوِيلَاتٌ فِي الْآيَةِ حَاوَلُوا فِيهَا تَطْبِيقَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي كَوْنِ إِيمَانِ الْمَرْءِ وَكُفْرِهِ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْتَقِلِّ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ خَاصَّةً بِهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَضَلَالِ الْكَافِرِ عَنْهُ. وَبَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِمَنْحِ الْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ الْمُسَهِّلِ لِمَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِفِعْلِهِ وَكَسْبِهِ،


الصفحة التالية
Icon