وفُصِلت جملة :﴿ قالوا ﴾ لأنَّها جارية في طريقة المحاورة.
وجملة ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ معطوفة على جملة :﴿ قالوا شهدنا ﴾ باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم.
وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك.
فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم : من اللّهو، والتّفاخر، والكبر، والعناد.
والاستخفاف بالحقائق، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل.
والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله.
فإنّ حالهم سواء.
وجملة :﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ معطوفة على جملة :﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدّنيا.
وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب.
وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله :﴿ وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم ﴾ [ الملك : ١٠، ١١ ].
فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء، فلا تنافي أنَّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب، إذ قالوا :﴿ والله ربّنا ما كنّا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس :"إنِّي أجد أشياء تختلف عليّ قال اللَّهُ :﴿ ولا يكتمون الله حديثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ]، وقال :﴿ إلاّ أن قالوا واللَّهِ ربّنا ما كنّا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، فقد كَتَموا.
فقال ابن عبّاس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون : تَعالوا نقل : ما كنّا مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم". أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٧ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon