اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة كاملة، ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار، إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال :﴿وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة﴾ ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين : الأول : إلى بيان كونه تعالى غنياً.
فنقول : إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه، لأنه لو كان محتاجاً لكان مستكملاً بذلك الفعل، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، وهو على الله محال، وأيضاً فكل إيجاب أو سلب يفرض، فإن كان ذاته كافية في تحققه، وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته وإن لم تكن كافية، فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه، فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق.
واعلم أن قوله :﴿وَرَبُّكَ الغنى﴾ يفيد الحصر، معناه : أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك، لأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج، فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله سبحانه :﴿وَرَبُّكَ الغنى﴾ وأما إثبات أنه ﴿ذُو الرحمة﴾ فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات.


الصفحة التالية
Icon