فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها، فقال : كذلك كذب الذين من قبلهم فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء ﷺ وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة ( ١٠٧ ) عند قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا.
وليس في هذه الآية ما ينهض حجّة لنا على المعتزلة، ولا للمعتزلة علينا، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأنّ الفريقين متّفقان على بطلان حجّة المشركين.
وفي الآية حجّة على الجبرية.
وقوله تعالى :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء.
وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ تكذيب النّبيء ﷺ إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى، فكذلك الأمم قبلهم كذّبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمّى الله استدلالهم هذا تكذيباً، لأنَّهم ساقوه مساق التّكذيب والإفحام، لا لأنّ مقتضاه لا يقول به الرّسول ﷺ والمسلمون، فإنَّا نقول ذلك كما قال تعالى: ﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] نريد به معنى صحيحاً فكلامهم من باب كلام الحقّ الذي أريد به باطل، ووقع في "الكشاف" أنّه قرىء :﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم ﴾ بتخفيف ذال كذب وقال الطيّبي : هي قراءة موضوعة أو شاذّة يعني شاذّة شذوذاً شديداً ولم يروها أحد عن أحد من أهل القراءات الشاذّة، ولعلّها من وضع بعض المعتزلة في المناظرة كما يؤخذ من كلام الفخر.
وقوله :﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم.


الصفحة التالية
Icon