الوجه الثالث : إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعاً لدعوته ﷺ، وتعللاً لعدم إجابته وانقياده، لا تفويضاً للكائنات إلى مشيئة الله تعالى. فما صدر عنهم كلمةُ حقّ أريد بها باطل. ولذلك ذمَّهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبيّ ﷺ في وجوب اتباعه والمتابعة، فقال :﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ ﴾ بالتشديد، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك، وإلا لقال ( كَذَلِكَ كَذَبَ ) بالتخفيف، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق.
وقال آخر :﴿ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم. فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم، إنما كان لاستهزائهم.
كما ذكر في قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٦٦ ]. وهي كلمة حقّ. لكن قالها استهزاء فلحقه الذم.
وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في " المواقف " وقرره أيضاً أبو منصور في " تأويلاته ".
قال الحسن بن الفضيل : لو قالوا هذه المقالة تعظيماً لله وإجلالاً له ومعرفةً بحقه وبما يقولون، لما عابهم بذلك. ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيباً وجَدَلاً. من غير معرفة بالله وبما يقولون.
الوجه الرابع : ما يستفاد من قول الإمام : إنّ في كلام المشركين مقدمتين :
إحداهما : أن الكفر بمشيئة الله تعالى.
والثانية : أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبيّ ﷺ. وما ورد من الذمّ والتوبيخ إنما هو على الثانية، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام، وإن كان لا يهدي إلاَّ من يشاء.
الوجه الخامس : إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتوّ.


الصفحة التالية