وأما القراءة بالتشديد، فلا يمكن حملها على أن القوم استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب، لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة ﴿كَذَّبَ﴾ بالتخفيف، وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى، وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى، وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم، فإنه كذبه بهذا الطريق، لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى، فهذا الذي أنا عليه من الكفر، إنما حصل بمشيئة الله تعالى، فلم يمنعني منه، فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء، وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم، فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة.
الوجه الثالث : في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى :﴿حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب.
الوجه الرابع : قوله تعالى :﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فتخرجوه لَنَا﴾ ولا شك أنه استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة، وهذا يدل على فساد هذا المذهب، لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً.
الوجه الخامس : قوله تعالى :﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ مع أنه تعالى قال في سائر الآيات :﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا﴾ [ يونس : ٣٦ ].
والوجه السادس : قوله تعالى :﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ والخرص أقبح أنواع الكذب، وأيضاً قال تعالى :﴿قُتِلَ الخارصون﴾ [ الذاريات : ١٠ ].