ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لا سيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل، فإنه يقال : كال الشيء بالشيء : قاسه، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال :﴿لا نكلف﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿نفساً إلا وسعها﴾ وما وراء الوسع معفو عنه ؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه، فصار الفعل موصى به مرتين فقال :﴿وإذا قلتم﴾ أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك ﴿فاعدلوا﴾ أي توفيقاً بين القول والفعل.
ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال :﴿ولو كان﴾ أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها ﴿ذا قربى﴾ ولا تحابوه طمعاً في مناصرته أو خوفاً من مضارته ؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال :﴿وبعهد الله﴾ أي الملك الأعظم خاصة ﴿أوفوا﴾ وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله، فإن الله لم يهمل شيئاً بغير تقدم فيه ؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله :﴿ذلكم﴾ أي الأمر المعتنى به ﴿وصّاكم به﴾ أي ربكم المحسن إليكم.
ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديداً على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئاً منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال :﴿لعلكم تذكرون﴾ أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر - ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام - فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧٤٢ ـ ٧٤٣﴾