النوع الثالث : من التكاليف المذكورة في هذه الآية، قوله تعالى :﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ واعلم أن هذا أيضاً من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط، والأمر والنهي فقط، قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة، قريبة من الأفهام، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش، ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول، ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد، لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
والنوع الرابع : من هذه التكاليف قوله تعالى :﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه، فيكون ذلك الحلف خفياً، ويكون بره وحنثه أيضاً خفياً، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال :﴿ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.
فإن قيل : فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] وخاتمة هذه الآية بقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.
قلنا : لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية، فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال، فلهذا السبب قال :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ بالتخفيف والباقون ﴿تذكرن﴾ بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٩٢ ـ ١٩٣﴾


الصفحة التالية
Icon