وقد كان اليهود والنّصارى في بلاد العرب على حالة أكمل من أحوال أهل الجاهليّة، ألا ترى إلى قول النّابغة يمدح آل النّعمان بن الحارث، وكانوا نصارى:
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإله ودينُهم...
قَويمٌ فما يَرْجُون غيرَ العواقب
ولا يَحْسِبُون الخَيْر لا شرّ بعده...
ولا يحسبون الشرّ ضَرْبَةَ لازب
والطائفة : الجماعة من النّاس الكثيرة، وقد تقدّم عند قوله تعالى :﴿ فلتقم طائفة منهم معك ﴾ في سورة النّساء ( ١٠٢ )، والمراد بالطّائفتين هنا اليهود والنّصارى.
والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التّوراة والإنجيل والزّبور.
ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنَّهم خوطبوا بالكتب السّماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم، فهذا تعلّل أول منهم، وثمة اعتلال آخر عن الزّهادة في التخلّق بالفضائل والأعمال الصالحة : وهو قولهم : وإن كنا عن دراستهم لغافلين }، أي وأنَّا كنّا غافلين عن اتباع رشدهم لأنّا لم نتعلم، فالدّراسة مراد بها التعليم.
والدّراسة : القراءة بمعاودة للحفظ أو للتّأمّل، فليس سرد الكتاب بدراسة.
وقد تقدّم قوله تعالى :﴿ وليقولوا درست ﴾ في هذه السّورة ( ١٠٥ )، وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى :﴿ وبما كنتم تدرسون ﴾ من سورة آل عمران ( ٧٩ ).
والغفلة : السّهو الحاصل من عدم التفطّن، أي لم نهتمّ بما احتوت عليه كتبهم فنقتدي بهديها، فكان مجيء القرآن منبّها لهم للهدي الكامل ومغنِياً عن دراسة كتبهم.
وقوله : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } تدرّج في الاعتلال جاء على ما تكنّه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقيّة الأمم، وتطلّعهم إلى معالي الأمور، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحِدّة أذهانهم وسرعة تلقّيهم، وهم أخلقاء بذلك كلّه.
وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم، وإيقاظ لأفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشّرف بين الأمم، كقوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ].
وقد كان الذين اتَّبعوا القرآن أهدى من اليهود والنّصارى ببون بعيد الدّرجات. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٧ صـ ﴾