لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو ؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً ؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً ؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً.. وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا، ومصائرهم كذلك في الآخرة :
﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين.. فلنسألن الذين أرسل إليهم، ولنسألن المرسلين. فلنقصن عليهم بعلم، وما كنا غائبين. والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾..
إن مصارع الغابرين خير مذكر، وخير منذر.. والقرآن يستصحب هذه الحقائق، فيجعلها مؤثرات موحية، ومطارق موقظة، للقلوب البشرية الغافلة.
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها. أهلكت وهي غارة غافلة. في الليل وفي ساعة القيلولة، حيث يسترخي الناس للنوم، ويستسلمون للأمن :
﴿ وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾.
وكلتاهما.
. البيات والقيلولة.. ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا. وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط!
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار!
﴿ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ﴾..
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! ﴿ إنا كنا ظالمين ﴾.. فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك!