واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية، فقد علم أن ضده هو الحق، فكان إنكاره إنكاراً بمحض اللسان، فكان ذلك كفر عناد، ومنهم من قال لا بل كفره كفر جهل وقوله :﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى﴾ وقوله :﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ يريد به في زعم الخصم، وفي اعتقاده، والله أعلم.
فائدة :
احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى، ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم، وكان تعالى عالماً بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين﴾ [ سبأ : ٢٠ ] فثبت بهذا أن إنظار إبليس، وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع أن يمهله، وأن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلاً، ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك.
قالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة.
فقال الجبائي : إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً، والدليل عليه قوله تعالى :﴿مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ [ الصافات : ١٦٢، ١٦٣ ] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة.


الصفحة التالية
Icon