بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب، والملابس والمناكح والمساكن، ما ذكره في كتابه، كما ذكر أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً ولحماً وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً وغير ذلك.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والإسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة ! وهل يكون أحق بهذا الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض، مع أن
مباينتهما للمخلوقات أعظم مباينة كل مخلوق لكل مخلوق ؟ والجاهل يضل بأن يقول : العرب إنما وضعوا لفظ الإستواء لاستواء الْإِنْسَاْن على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجودي ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات، فهو كما يقول القائل : إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفاناً، وأصمخة وآذاناًَ، وشفتين ولساناً، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاء، وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه، وعلمه وإرادته ورحمته، مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد.
وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولاً لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين، وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الإستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع و البصر، المضاف إلى الله لا يجوز أن يتناول ذلك شيئاً من خصائص المخلوقين.


الصفحة التالية
Icon