ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا ﴿ يغشى الليل النهار الخ، وقوله في سورة يونس ( ٣ ) :{ يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ وقوله في سورة الرّعد ( ٢ ) :﴿ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات ﴾ وقوله في سورة ألم السجدة ( ٤، ٥ ) :﴿ مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ﴾ وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها.
وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه.
فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة، كما في قوله:
﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ [ البقرة : ٢٩ ].
وقد نحا صاحب "الكشاف" نحواً من هذا المعنى، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك، قال تعالى :﴿ ولها عرش عظيم ﴾ [ النما : ٢٣ ] وقال :﴿ ورفع أبويه على العرش ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة، كما قدّمتُه آنفاً.