والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به، فقد قطع رسول الله ﷺ نخل بني النضير، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ، لاختلاف الأحوال.
والبعدية في قوله :﴿ بعد إصلاحها ﴾ بعديةٌ حقيقيةٌ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها ﴾ [ فصلت : ١٠ ] على نظام صالح بما تحتوي عليه، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض، وخلق له ما في الأرض، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار، فذلك النّظامُ الأصلي، والقانُونُ المعزّزُ له، كلاهما إصلاح في الأرض، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة، وقد مضَى في قوله تعالى:
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ في سورة البقرة ( ١١ )، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً.
فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد، وليس في معنى الفعل، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ، واستُعمل الضّار على ضرّه، أو استبقى مع إمكان إزالته، كان إفساداً بعد إصلاح، كما أشار إليه قوله تعالى :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ].