وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح النّون، وسكون الشّين على أنّه مصدر، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل ( أرْسل ) بمعناه المجازي، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً، وإمّا على الحال من الرّيح، أي ناشرة أي السّحاب، أو من الضّمير في ( أرسل ) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار.
وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف ( بُشراً ) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث.
فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور.
وأصل معنى قولهم : بين يدي فلان، أنّه يكون أمامه بقرب منه ( ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] فقصد قائله الكناية عن الأمام، وليس صريحاً، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب، كقوله تعالى :﴿ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ [ سبأ : ٤٦ ]، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان.
وهكذا استعماله في هذه الآية، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته.
والرّحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأنّ الله يرحم به.
والقرينة على المراد بقيّة الكلام، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر.


الصفحة التالية
Icon