و ﴿ منْ ﴾ مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن، وشهد به تاريخ الأديان، ينبىء أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الإنحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبياً في بني عبس، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضاً ( فتح ) بالمهملة أو ( فتَخ ) بالمعجمة أو ( فيْج ) بتحتية وجيم، أو فلْج ( بلام وجيم ) من اليمامة.
والاستثناء مفرغ من أحوال، أي ما أرسلنا نبيّاً في قرية في حال من الأحوال إلاّ في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله :﴿ لعلهم يضرّعون ﴾ فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ...
والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه، وهو معنى الغلبة، كما تقدم في قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخدناهم بالبأساء والضراء ﴾ في سورة الأنعام ( ٤٢ ).
وقوله : بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون } تقدم ما يُفسّرها في قوله :﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون ﴾ في سورة الأنعام ( ٤٢ ).
ويُفسر بعضها أيضاً في قوله :﴿ والصابرين في البأساء والضراء ﴾ في سورة البقرة ( ١٧٧ ).