وفي "الكشاف" في سورة طه، جَعَل ﴿ إما أن تلقي ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية، فلا يحسن الإخبار بها مثل : السماء فوقنا، فتعين أن يكون الكلام مستعملاً في معنى غير الإخبار، وذلك هو التخيير أي : إِما أن تبتدىء بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدىء، فاختر أنت أحد مرين ومن هنا جازَ جَعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف، كما قدره الفراء وجوزه في "الكشاف" في سورة طه، أي : اختر أن تلقي أو كوننا الملقين، أي : في الأولية، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهاراً لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادىء لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها، فتكون النفوس أشد تأثراً بها من تأثرها بما يأتي بعدها، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم، فإن لاستضعاف النفس تأثيراً عظيماً في استرهابَها وإبطال حيلتها، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول شأنهم في نفسه، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله :﴿ وإما أن نكون نحن الملقين ﴾.


الصفحة التالية
Icon